الإنترنت، عالما الأشياء والأشخاص

عالم الأشياء
من أسوأ مظاهر التعامل مع عالم الأشياء هو ما يصفه بن نبي بالتكديس، الذي لا يؤدي إلا لمزيد من الاستهلاك المفرغ حيث تفقد السلعة قيمتها المعنوية مع تكرار شراء أنواع منها. وبطبيعة الحال فإن الغرق في محيط يدمن هذا التكديس، يؤدي بدوره لنوع من اللافاعلية والكسل حيث يصبح توفر الأدوات التي تم شراؤها لاختصار الجهد والوقت، سارقًا لهما. ولعل أكثر ما يوضح حقيقة تمكن الأشياء من عالمنا وفي مجتمعاتنا العربية، هو تغير سلم الاحتياجات المادية للفتيات حتى أصبحت التقنية أهم من الملابس وأدوات الزينة وهي نقطة من السهل ملاحظتها عند اللواتي قررن التنازل عن الملابس الجديدة وتكرار استهلاك الملابس القديمة في سبيل توفير مبلغ شراء جهاز إلكتروني. وهو التنازل الذي كان مستحيلًا من قبل التقنية. جديرٌ بالذكر أن هذا التعلق يعود لأسباب كثيرة أهمها تمركز الشيء واحتلاله قيمةً جوهريةً عند الناس ولعل البعض يتساءل أيهما جاء أولًا هذا التمركز للأشياء أم رغبة التملك عند الأفراد؟ وهو سؤال غير مجدٍ، لأننا أمام حقيقة لديها ما تقوله وعلينا أن نعاملها بطريقة صحيحة؛ أي أننا لسنا بصدد تفكيك هذه العلاقة وإنما تغيير مفهومها واستثماره.
ما سبق يقودنا للاعتراف باحتلال الأشياء التقنية بدءًا من الأجهزة، المواقع، الشبكات الاجتماعية مرتبةً مهمةً عند إنسان اليوم. لهذا يتطلب تعاملنا مع الأشياء تغييرًا نوعيًا في سلوكياتنا لئلا نصل لمرحلة تستعبدنا فيها الأشياء. من أهم الأمور التي تتطلب تقويم النظر فيها بخصوص علاقتنا مع الشيء هو إعطاؤه قيمة معنوية وربطه بمجهود وإنجاز شخصي، كربط الأجهزة بذكرى معينة (كذكرى توفير المبلغ لشرائها) مما يؤدي لتقليل عدد الأجهزة ورفع كفاءة الاستخدام. فهذا يمنح العلاقة بعدًا أخلاقيًا بسبب المجهود المبذول ونوعية الفائدة المجنية. وهذا يذكر بأهمية وجود مهام جادة يتم تأديتها بواسطته كالقراءة والكتابة وبالتالي تحقق الذات وتنميها ويتعدى نفعها مستخدمها. ولو تجاوزنا مشكلة تعدد الأجهزة وضررها على نطاق المجتمع، فسنجد أننا محاطون بإدمان الاستخدام والذي يضعف فاعلية استخدامه؛ لذا نجد أن تقليص ساعات الاستخدام يزيد قوة العلاقة وفاعليتها فالديمومة تسبب الملل وتفقد الشيء قيمته. وطبعًا لا نهمل نقطة الإضافة. بحيث لا يصير الفرد مجرد مستهلك سلبي وهذه الناحية مساحة واسعة لتحسين علاقتنا بالشيء (الأجهزة والإنترنت) سواءً على مستوى التقنيين أو المستخدمين العاديين. بذا نتجاوز الأشياء للارتقاء نحو العالم الثاني في تكوين الثقافات.
عالم الأشخاص
لا تختلف العلاقات على الإنترنت عنها في الأرض إلا في نقطة المسافة والصورة التي تجلبها من بعد. فحينما يحمل الفرد علامات على مدلولات خاصة به وبخلفيته الثقافية: كالمظهر العام، اللون، اللغة، اللهجة، الصوت، أسلوب الكلام والتعامل…إلخ نجد أن كل هذا ينمحي فيما يعبر به الفرد عن نفسه على الشبكة. حيث تكتسب المسافة بين الأشخاص بعدًا تمويهيًا وتحمل للمستخدم صورةً عن بعد. ورغم سلبية هذه النقطة إلا أن علاقات الإنترنت تظل علاقات حقيقية يعتريها ما يعتري العلاقات الأخرى وتتسم بسماتها بل تضيف عليها وتتجاوزها.
ومن المعروف لدى قارئ بن نبي الاهتمام الذي يوليه لعالم الأشخاص والذي يتحدد أساسًا بالعلاقات داخل هذا العالم وما يحيطها من إشكالات. وكما تعرضنا لأهم خاصية تتسم بها العلاقات على الإنترنت، فمن الجدير بالذكر أن نتحدث عن استحقاقه لهذا الامتياز بملاءمته لتكوين العلاقات وتحسينها. لكننا ما إن نهم بالحديث حول هذه النقطة حتى نجابه باعتراضٍ شديد. ولو تأملنا في مكمن الاعتراض، لوجدنا أنه ينصب على البعد السابق، حيث يتم الاعتراض لكون العلاقات على الشبكة قائمة على وحدة الاهتمامات وليست قائمةً على أسس أقوى (كرابطتي الدين والدم) كما أن هذا الأساس سهل التزوير.
لكن السؤال الذي يتحتم طرحه هنا: لم يفترض على كل علاقة أن تكون علاقة مثالية ومشتملة على الشروط التقليدية السابقة؟ هذه الفكرة تزيح وجود أنواع علاقات أخرى أو هي تحصرها في مفاهيم سوداوية ضيقة. بمعنى إما أن تكون هناك صداقة مثالية وإما الخيار الثاني وهو العداوة أو الاعتزال على أحسن تقدير. مما يجعل العلاقات القائمة على المصالح، علاقات سيئة ولحظية، رغم ما يفترض بنا من تطويرها واستثمارها. عبر الإنترنت، يمكن تأسيس علاقات عمل قوية، علاقات دراسية، علاقات ثقافية، علاقات للترفيه وقضاء الوقت، علاقات للنقاش بل حتى علاقات أخوية. المهم ألا نحمل الإنترنت فوق طاقته وأن يتم تقبله بكل خصائصه. ولا يجب أن نغفل أن العلاقات على الأرض هي أيضًا علاقات متنوعة وأن الإنترنت مجرد امتداد لها وبمميزات مختلفة.
ويبقى السؤال قائمًا: هل يوفر الإنترنت مكانًا مناسبًا لعالم العلاقات؟ من خلال تجربتي، وصلت لقناعة مفادها أن الشبكات الاجتماعية تصلح لتأسيس علاقة بين الناس وأن كل شيء يتم في إطارها (نشر تحديثات، مشاركة في فعاليات) فلا بد أن يهدف لخدمة هذه الفكرة الرئيسية وألا يتم التعويل عليها في كل شيء فهذا ظلم لها وللمستخدم. فهي مثلًا لا تعتبر منبر تواصل فكري لأسباب عديدة ذكرتها في نقد خطاب تويتر مما يجعلها غير مؤهلة للبناء الفكري ولهذا فهي تصلح فقط لتكون كما تم تسميتها شبكات “اجتماعية” فقط.
بذا نخلص إلى مناسبة الشبكات الاجتماعية (والإنترنت عمومًا) للتعرف على الآخرين داخل وخارح إطار الثقافة الخاصة والنقاش والتبادل المعرفي والذي قد يصل في بعض الأحيان لإلغاء الحاجة للسفر. بالإضافة إلى أنها بيئة مناسبة جدًا لتطبيق مفهوم التعلم الاجتماعي وهو مفهوم جوهري في تطور البشرية.